(الجواب) من المعلوم أن الناس كانوا قبل بعثة النبي صلّى الله عليه وسلم في جاهلية وشرّ كما جاء في الحديث الصحيح: "يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشرّ فجاءنا الله بهذا الخير ..." ومعلوم كذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلم بلّغ الرسالة وأدّى الأمانة على أحسن الوجوه، وأنه أنقذ الناس بإذن الله من الجاهلية والشرّ الذي كانوا تائهين فيه.
والسؤال المهمّ هو: ما الذي دعا النبي صلّى الله عليه وسلم الناس إليه وأخبر أن نجاتهم في الدنيا والآخرة متعلّقة بتحقيقه؟
لا شكَّ أنَّهُ دعاهم إلى:
(أولاً) أن يؤمنوا بالله، ومعنى الإيمان بالله هو أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً وأن يكفروا بالآلهة والأنداد التي كانوا يعبدونها مع الله.
قال الله تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ [النساء: 36].
وقال تعالى: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا﴾ [البقرة: 256].
وهذه الآيات وأمثالها في القرآن تدلّ على أن الإيمان بالله الذي كان مطلوباً من أهل الجاهلية كان: "أن يعبدوا الله وحده ويكفروا بما كانوا يعبدونه من قبل"
ولم يكن أن يعترفوا بوجود الله ، - كما يظنُّه كثير من الجهال- وأنه وحده خالق الكون ومالك الملك، فقد كانوا معترفين بذلك في جاهليتهم قبل أن يأتيهم الرسول بالتوحيد.
قال ابن عباس: "من إيمانهم إذا قيل لهم من خلق السماوات ومن خلق الأرض ومن خلق الجبال؟ قالوا: الله، وهم مشركون به".
ولم يكونوا كذلك ينكرون أن يُعبد الله بل كانوا يتوجّهون إلى الله بكثير من العبادات: كالصلاة والصيام والحجّ والعتاقة والصدقة وصلة الأرحام.. وغير ذلك. وإنما أنكروا إخلاص العبادة لله وترك عبادة الآلهة التي اتّخذوها من دون الله.
وقال تعالى: ﴿وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ﴾ [هود: 53].
وقال تعالى: ﴿أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا﴾ [هود: 62].
وظاهرٌ من الآيات أنه صلّى الله عليه وسلم -وغيره من الرسل- كان يدعوهم إلى توحيد العبادة لله وأنّهم كانوا ينكرون ذلك ويرفضونه ويقولون: هذه بدعةٌ لم تكن في القرون الماضية.
وهذه هي أصول الإيمان التي كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يدعوا الناس إليها وهي أصول مترابطة يجب الإيمان بها مجتمعة، ولا ينفع الإيمان بواحد منها إذا انفرد، كما لا يقوم الإيمان إذا تخلّف أصلٌ من هذه الأصول. ويظهر هذا الترابط جليّاً عند التعريف. فمثلاً تقول:
(1) التوحيد: "هو أول ما أمر الله به الخلق على ألسنة رسله وأنزل الكتب ببيانه وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وهو الذي يفرِّق الناس إلى فريقين فريقٌ في الجنة وفريقٌ في السعير".
فترى أنه قد ارتبط بتعريف التوحيد ذكر الرسل والكتب والجنة والنار. وإذاً فلا يؤمن بالتوحيد من لا يؤمن بالرسل والكتب والجنة والنار.
(2) الرسول: "هو الرجل المبلغ عن الله الداعي إلى توحيده ويأتيه الملك بالوحي من أمر الله وهو النذير بين يدي الساعة المبشّر بالجنة لمن آمن".
فترى أنه جاء في تعريفه ذكر التوحيد والملك والوحي الذي يشمل الكتب وذكر الساعة. وإذاً لا يكون مؤمناً بالرسول من لا يؤمن بالتوحيد والملائكة والوحي والجنة والنار.
(3) الملك: "هو مفرد "الملائكة". وهم خلقٌ من خلق الله. خلقوا من نور يعملون بأمر الله ولا يعصونه .. ومن وظائفهم تبليغ الوحي من الله إلى رسله من البشر". فجاء في التعريف ذكر الوحي ويشمل كتب الله المبيّنة للتوحيد، وذكر رسل الله. وإذاً لا يؤمن بالملائكة من لا يؤمن بالوحي والرسل والتوحيد.
(4) القرآن: "هو كلام الله الذي أوحاه الله إلى محمد صلّى الله عليه وسلم عن طريق الملك جبريل" فجاء في تعريفه ذكر الوحي والرسول والملك .. وإذاً لا يمكن أن يؤمن بالقرآن من لا يؤمن بالوحي والملائكة والرسل الذين منهم محمد صلّى الله عليه وسلم الداعي إلى التوحيد.
(5) اليوم الآخر: "هو اليوم التي أخبرنا الله بمجيئه على ألسنة رسله الذين تلقوا الوحي منه" وإذاً لا يمكن أن يكون مؤمناً باليوم الآخر من لا يؤمن بالوحي والملائكة والرسل .. ولا يؤمن بالوحي من لا يؤمن بالتوحيد.
ولأجل هذا الترابط المكين كان القرآن الكريم يتنَزَّلُ ببيان هذه الأصول كلّها في آن واحد. ويدعوا المشركين إلى الإيمان بها جملة بدون تفريق. وكان المشركون -وهم على شركهم- ينكرون التوحيد قائلين: ﴿أَجَعَلَ الآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا﴾ [ص: 5].
وينكرون الرسول ويصفونه بالجنون والكهانة والشعر والسحر وغير ذلك.
والمقصود من ذلك أن تعلم أن الدعوة إلى الإيمان بالله أي توحيده وتنْزيهه عن الشركاء كان يصحبها ويلازمها الدعوة إلى الإيمان برسل الله وملائكته وكتبه واليوم الآخر .. وأن المشركين كانوا يجيبون بالإنكار والرفض.
أما إذا اقتنع المشرك بأن ذلك كله حقٌّ فإنه كان يأتي النبي صلّى الله عليه وسلم ويقول: "آمنت بالله" أو يقول: "أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله" وكان هذا دليلاً على إجابته إلى الإيمان كلّه ولذا لم يكن يطلب منه أن يقول "آمنت بالملائكة" ، "آمنت بالقرآن" ، "آمنتُ بالبعث والحساب" لأنه آمن بالتوحيد وآمن بالرسول ومن آمن بهذين فقد آمن بالباقي بداهة.
فالناس وهم يعيشون في جاهلية وشرك وشرّ جاءهم العلم والبينة فافترقوا إلى مؤمنين متّبعين للعلم وكافرين متّبعين لأهوائهم:
وكل من بلغتْه هذه البيّنة التي هي: "إخلاص العبادة لله ونبذ الشركاء والأنداد" ثم لم يستجب لها كان من أصحاب السعير سواءً كان معانداً للحقّ أم جاهلاً يحسب أنه من المهتدين.
(الثالث) قوم لم تبلغهم هذه البيّنة فهم على شركهم وجاهليتهم وهم قسمان:
وثنيون يعبدون غير الله وليس لهم كتابٌ سماويٌّ يرجعون إليه.
أهل الكتاب: وهم قوم ينتسبون إلى رسل الله وكتب الله وأصل دينهم صحيح لم يكن فيه شرك ولكنهم انحرفوا وخرجوا عن التوحيد والإخلاص وعبدوا مع الله غيره كاليهود والنصارى.
وإذا ثبت بالأدلّة الصحيحة أن هذا العلم وهذه البيّنة التي جاءت عند مبعث النبي صلّى الله عليه وسلم لا تنقطع وأنه لا تزال طائفة من أمته ظاهرين على الحقّ فالناس أمام الطائفة المنصورة على ثلاثة أقسام:
(1) مؤمنون لا يشركون بالله شيئاً.
(2) كافرون محاربون مبغضون للتوحيد من معاندين وجاهلين يحسبون أنهم مهتدون.
(3) كافرون جاهلون لم تبلغهم البيّنة فهم على شركهم وجاهليتهم الأولى.
وهذا هو الحق المقطوع به فليحذر اللبيب من وساوس الشيطان الناطق بلسان أوليائه ﴿يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾ [الأنعام: 112].
أما بعد ..
فهؤلاء الذين يقال إنهم علماء وهم يتحرّجون من تكفير أهل الإشراك اعلم أنهم ليسوا بعلماء الإسلام وإنهم "جهلاء" وإن جاز إطلاق اسم "العلماء" عليهم فبالنسبة إلى غيرهم من عوام أهل الجاهلية كما يقال: "علماء اليهود" أو "علماء النصارى"، مع كونهم الذين أضلوا الناس وأفسدوا عقائدهم وقد شبّههم الله بالحمير فقال: ﴿كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾.
وهؤلاء الذين يُقال إنهم "علماء" من المتحرّجين يظهر لك جهلهم من وجوه كثيرة:
(الأول): إنهم قالوا: الجاهل لا يكفر بالشرك الأكبر .. وهذا جهلٌ عظيم لأن الله سمّى التوحيد "علماً" فقال: ﴿وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ﴾ [الشورى: 14].
وسمّاه "بيّنة" أي العلم الذي يُبيّن الحقّ فقال: ﴿وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ. وَمَا أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ﴾ [البينة: 4-5].
فإذا كان الإنسان جاهلاً بالتوحيد فهو جاهلٌ لم تبلغه البيّنة بعد فهو إذاً على جاهليته الأولى. لأن المسلم هو الإنسان الذي جاءته البيّنة فأظهر الرضى والقبول. ولا يطلق صفة الإسلام على أحدٍ حتى ينال درجة من العلم، وهذه الدرجة هي العلم بالتوحيد.
ومن قال: إن الجاهل لا يكفر بالشرك، فهو كمن قال: الإسلام هو الجهل بالتوحيد، وهذا من أفسد العقائد وأبعدها عن الحقّ.
(الثاني): عندما يقول "إن الجاهل لا يكفر بالشرك" يجهلون أن الشرك بالله عقيدة يعتقدها الجهلاء. ومعنى "عقيدة" هي ما يعقده الإنسان بقلبه ويجزم أنه حقٌّ. فإذا كان الشرك بالله من أبطل الباطل ومع ذلك يعتقده بعض الناس دلّ ذلك على جهل ذلك المعتقد للشرك إذ لا يعتقد الشرك إلا جاهلٌ مغرور مخدوع:
وهذا من عظيم جهلهم لأن موضع الآية هو في من هداه الله إلى قبول البيّنة إذا جحد شيئاً من الشريعة سواء كان علمياً أو عملياً جهلاً منه .. فلا يكفّر حتى تقام عليه الحجة ويزال عنه الإشكال .. فكيف يقال لجاهل التوحيد أنه ممن هداه الله مع الإقرار بجهله وعدم بلوغ البيّنة إليه.
(الخامس) إنهم يقولون "نحن لا نكفّر من قال لا إله إلاّ الله" بالشركيات مادام هو يقول كلمة التوحيد. مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قد تبرّأ من الخوارج وحرّض الصحابة على قتلهم وكانوا يقرؤون القرآن ويشهدون الشهادتين ولم يأتوا بالشرك الأكبر .. والصحابة بقيادة الصِّدِّيق قاتلوا مانعي الزكاة وسمُّوهم مرتدين. ومنع الزكاة أخفّ كفراً من عبادة غير الله، ولا خلاف أنهم كانوا يشهدون الشهادتين ويصلُّون. فهم يجهلون هذه الأدلّة الصحيحة أو يعلمونها ولا يعتقدونها. وعدم اتّباع العلم جهلٌ كذلك، وما الجهل إلاّ عدم العلم أو عدم اتّباع العلم.
(السادس) من المعلوم أن المشركين كانوا مقرِّين بوجود الله وكانوا في بعض الأحيان يدعون الله مخلصين له الدِّين وذلك عند الشدائد .. ومع ذلك لم يكونوا مؤمنين بالله أي لم يكونوا موحّدين. كما هو بيّن في قوله تعالى: ﴿كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾ [الممتحنة: 4]. أي حتى توحّدوه وتفردوه بالعبادة.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى هذا "الإيمان بالله" ويدعوهم كذلك إلى الإيمان بالرسول والقرآن والملائكة واليوم الآخر.
وعندما جهل هؤلاء هذه الحقيقة وجهلوا المراد من "الإيمان بالله" المطلوب من أهل الشرك جاؤا بالأعاجيب .. فقالوا: "من أنكر أن محمّداً صلى الله عليه وسلم رسول الله فهو كافر ولا يُعذر بالجهل، ومن أنكر البعث أو القرآن أنه كلام الله أو الملائكة أو البعث والحساب فهو كافرٌ ولا يُعذر بالجهل. أما من أنكر التوحيد فهو يُعذر بالجهل". فما أعظم هذا الجهل .. وبم صاروا "علماء" وهم يجهلون قدر التوحيد !!.
إنّ النبي صلى الله عليه وسلم عندما كان يُعلِّم الناس الإيمان كان يذكر أولاً "الإيمان بالله" ثم الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم كقوله صلى الله عليه وسلم:
= "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر .." الحديث.
= "من شهد أن لا إله إلاّ الله وأنِّي رسول الله .." الحديث.
وكذلك القرآن كقوله تعالى: ﴿فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [الأعراف: 158].
وقوله: ﴿وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ﴾ [النساء: 152]. وغير ذلك من الآيات.
فإن كان الذي لا يؤمن بالرسول لا يعذر بالجهل فالذي لا يؤمن بالله أولى بأن لا يُعذر بالجهل.
(السابع) إنهم إذا قيل لهم: ما حكم من يشهد أن محمّداً صلّى الله عليه وسلم رسول الله .. إذا اعتقد أن الوحي لم ينقطع بعده .. وإن كان لا يسمّى أحداً بعده أنه رسول الله؟. فإنهم يجيبون على الفور: هذا كافر لم يؤمن بالرسول .. لأن من الإيمان بالرسول أن تؤمن بأنَّهُ خاتم النبيين وأن الوحي قد انقطع بعده.
فإن قيل: ما حكم من يقول: لا إله إلاّ الله وهو يعبد غير الله ولكن لا يقول إنه "إله"؟؟. فإنهم يجيبون إنه لا يكفر وهو معذور بالجهل .. فتناقضوا بسبب جهلهم بقدر التوحيد.
(الثامن) إنهم يدافعون عن أهل الإشراك مرّة بقولهم: "إنّهم معذورون بالجهل" ومرّةً إنهم يقولون: "لا إله إلاّ الله" ومرّةً: لا يجوز تكفير المعينين. ويقولون لا نكفّر أحداً ولا نُبدِّع ولا نفسِّقُ إلا من قامت عليه الحجة الرسالية. فإن سئلوا وهم على ذلك عن الموحّدين، نسوا قولهم هذا وحكموا عليهم بالبدعة أو بالكفر. فإن قيل إنهم يقولون: "لا إله إلاّ الله" أو إنهم معذورون بالجهل، لا يقبلون ويقولون: "نحن نتّبع منهج السلف وهم قتلوا الخوارج وحكموا عليهم بالضلال" !!. وهذا جهلٌ عظيمٌ واتّباعٌ للهوى !!.
أليس من منهج السلف تكفير أهل الإشراك؟ !!
ألم يحرّق عليٌ رضي الله عنه السبئية والصحابة متوافرون؟ !!
ألم يقاتل الصدِّيق رضي الله عنه والصحابة مانعي الزكاة؟ !!
ألم يقاتل الصحابة المتنبئين؟ !!
إن جرأة أولئك على الموحّدين مع دفاعهم المستميت لأهل الشرك دليلٌ على أنّ لهم هوى في الأمر وأنّهم من أعداء التوحيد.